موضوع: الثبات على الحق سبيل نصرة أهل الإيمان الأحد 2 مايو - 17:29:40
[size=21]الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما أحوج أهل الحق إلى الثبات عليه؛ ليتحقق لهم أملهم المنشود في بناء الشخصية المؤمنة التي يغير الله بها الإسلام ويُمكِّن لأهله في الأرض.
الثبات على الحق من نعم الله على المؤمن:
فأعداء الله -عز وجل- في كل زمان ومكان حريصون على فتنة أهل الحق بكل الطرق، والكيد لهم؛ حتى يجيئوا بما يوافق أهواءهم ويتركوا القول والعمل بما أنزل الله، لو فعل أهل الحق ذلك ووافقوهم على مرادهم لصاروا أحبَّ الناس إلى أعداء الله، ولكنَّ الله -عز وجل- يثبت أولياءه ويحول بينهم وبين الاستجابة لهذه الفتن بما جبلهم عليه -عز وجل- من حب الحق والسعي في سبيله، والتبصر بمراد أعدائهم ونواياهم الخبيثة.
وحين أنعم الله -عز وجل- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى صحابته بتثبيتهم في مواجهة أعدائهم يوم بدر، ثبَّت قلوبهم أولاً؛ ذلك أن تثبيت القلوب هو الطريق لتثبيت الأبدان؛ فأنزل الله المطر على أهل بدر حيث طهرهم به وربط به على قلوبهم.
الثابتون على الحق في الدنيا هم أهل الثبات عند الموت وفي القبر:
فالله -عز وجل- يثبت أهل الحق الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام، الذي هو التصديق اليقيني المستلزم لانبعاث الجوارح بالعمل الصالح، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا أمام ما يعرض لقلوبهم من أمراض الشبهات والشهوات، فالله -سبحانه- يهديهم إلى اليقين الذي يزيل ما قد يرد من الشبهات.
ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك ما حدث للإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن حيث هداه الله إلى اليقين وثبته في مواجهة أهل البدع والأهواء، فأعز الله بهذا الإمام الجليل الإسلام وأهله وقمع به أهل البدع إلى يوم الدين.
كما أن الله -عز وجل- يهدي أهل الحق بالإرادة المعنوية على تقديم ما يحبه الله -تعالى- على هوى النفس ومرادها، وذلك عند ورود أمراض الشهوات.
فبالإرادة الجازمة ثبت الله نبيه يوسف -عليه السلام- حيث راودته امرأة العزيز عن نفسه؛ فثبته الله -عز وجل- في هذا الموقف العصيب: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف:23).
هؤلاء وغيرهم من أهل الحق في كل زمان ومكان، الذين دعوا إليه وصبروا في سبيله هم أهل الثبات عند الموت وفي القبر؛ قال عز من قائل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم:27)، فيجازيهم ربهم عند الموت بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة، وفي القبر عند سؤال الملكين بتوفيقهم إلى الإجابة الصحيحة.
إلقاء الرعب في قلوب أعداء الله منحة منه -تعالى- لأهل الحق:
فالله -عز وجل- لا يكتفي بتثبيت المؤمنين على الحق فضلاً منه ونعمة، وإنما يمنحهم أيضًا منحة عظيمة بتوهين أعدائهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، وهذا الرعب هو من أعظم جنود الله الذي ينصر الله به أولياءه على أعدائهم.
وهناك عوامل لابد لأهل الحق أن يتمسكوا بها ويعضوا عليها بالنواجذ حتى يكونوا أهلاً لهذا الإنعام العظيم عليهم من مولاهم -عز وجل- بتثبيتهم على الحق.
لا يثبت إلا الصابرون ولا فائدة في غيرهم:
فهذا طالوت لما جهز جنوده لقتال الأعداء رأى منهم الضعف وصغر الهمم، فأراد أن يميز الصابرون منهم عن غيرهم؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ... ) (البقرة:249)، تمرون عليه وقت عطشكم ورغبتكم في الماء (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)، فهذا اختبار من طالوت أراد به أن يميز الصابر والصادق عن غيره، فالذي يشرب يدل ذلك على قلة صبره، والذي لا يشرب يدل ذلك على صبره وصدقه، وكانوا هم القلة: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ)، صبروا وصدقوا ولم يشربوا: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)، فإن كان الذي قال ذلك هم الأكثرية الذين لم يطيعوا طالوت أو كانوا هم الذين عبروا معه فإنه لما أصابهم بعض الضعف شجعهم على الثبات أهل الإيمان؛ أهل الحق حيث قالوا: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). وهي معية التأييد والنصر والتسديد؛ فثبتوا وصبروا حتى استحقوا من الله النصر على أعدائهم.
وإن من أهم الدروس المستفادة من هذه القضية -وهي كثيرة-:
أن النصر مع الصبر، وأنه بالصبر يتحقق الثبات على الحق، ويأتي على أثره النصر، ومن لا يصبر لا يثبت؛ فينبغي إبعاده حتى لا يتسبب في توهين وتخذيل الآخرين.
الدعاء والتوسل إلى الله وسؤاله التثبيت:
وما دام الثبات على الحق من عند الله فينبغي إذاً أن يُطلب منه وحده، ففي قصة طالوت السابق ذكرها حين تم تخليص الطائفة المؤمنة المصابرة لمواجهة جالوت وجنوده، وتحققت المواجهة بين العصابتين -أهل الحق وأهل الباطل- كان لابد للعصابة المؤمنة أن تتوسل إلى الله وتتضرع إليه، وتسأله الصبر والتثبيت والنصر، فكل مطلوب لأهل الحق إنما هو بيد الله وحده: (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
والدعاء من أعظم الأسلحة التي تعين أهل الحق في مواجهة أعداء الله؛ فعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ومن دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب وهو ينقل التراب: (اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا) (متفق عليه).
طاعة الله -عز وجل- من عوامل الثبات على الحق:
إن من تيسير الله -عز وجل- على العبد أنه لم يكلفه إلا بما يطيق، فعلى العبد إذاً أن يحمد ربه على ذلك، حيث أمره بما يطيق فعله، ونهاه عما يطيق تركه، فالعبد لو فعل ما طلبه الله منه في كل وقت بحسبه وبذل همته في سبيل تحقيق ذلك؛ فإن الله -عز وجل- سيمنحه الأشياء التالية وما أعظمها:
الأول: أن يجعله من الأخيار المتصفين بأفعال الخير، وهذا يستلزم انتفاء صفة الأشرار عنهم.
الثاني: أن يزيد في تثبيته على الحق بسبب طاعته لله -عز وجل- واستمراره على ذلك.
الثالث: أن يمنحه الأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
الرابع: أن يهديه صراطه المستقيم وهي أعظم نعمة، فلا نعمة أتم ولا أكمل ولا أنفع من أن يهدي الله عبده صراطه المستقيم.
ولقد كان لطاعة صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- لما رجعوا من أحد إلى المدينة، فندبهم -صلى الله عليه وسلم- إلى الخروج إلى حمراء الأسد مع ما بهم من الجراح والآلام، فكان لهذه الطاعة الفورية أثر عظيم في أن نصرهم الله -عز وجل- بالرعب الذي ألقاه في قلوب أعدائهم؛ فرجعوا إلى مكة وعاد أهل الحق سالمين إلى المدينة فائزين بأجر غزاة مكة دون قتال.
فالإكثار من ذكر الله -تعالى- من أعظم ما يعين على الثبات على الحق ضد أعداء الله، والنصر عليهم، وذلك امتثالاً لأمر فاطر السموات والأرض؛ قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45).
الاقتداء بالصالحين طريق إلى الثبات على الحق:
وأعظم الأمثلة على ذلك وأعلى من يُقتدى به في ذلك، بل هو المثل العملي الأروع في الثبات على الحق، هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ. وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلاَّ رَمَضَانَ" (رواه مسلم).
وكان -صلى الله عليه وسلم- أثبت الناس في مواجهة أعداء الله، وما ولاهم ظهره أبدًا، وكان يثبت أصحابه في المواقف العصيبة، ومنها ما حدث يوم حنين، كما يقول البراء -رضي الله عنه- حين سأله رجل: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلاَحٌ أَوْ كَثِيرُ سِلاَحٍ فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً لاَ يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ فَنَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَقَالَ: (أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ). ثُمَّ صَفَّهُمْ. (متفق عليه).
وهو الذي ثبته ربه من فوق سبع سماوات بقوله -عز وجل-: (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120)، وقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف:35)، فإن النفوس جبلت على الأنس الاقتداء، ويتأيد الحق بذكر شواهده وكثرة من قام به.
تدبر القرآن والعمل بما جاء به من أعظم ما يعين على الثبات على الحق:
فالواجب على أهل الحق تدبر القرآن واستخراج الدواء منه؛ لعلاج الأمراض والفتن حسبما تقع، وهذا فيه اقتداء بالرب -عز وجل- في تدبير حال رسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث أنزل عليه القرآن مفصلاً وقتًا بعد وقت، وتواردت عليه آياته شيئًا فشيئًا، فكان ذلك سببًا في تثبيت قلوب صحابته -صلى الله عليه وسلم- حتى صارت أثبت من الجبال، واكتملت بآيات القرآن هدايتهم الهداية التامة التي استحقوا بها سكنى دار النعيم؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:102).
الثقة فيما عند الله -عز وجل-:
فإن المؤمن دائمًا يثق بربه، ويثق فيما عنده من موعود لأهل الحق، وهذه الثقة كانت من أهم عوامل ثبات الصادقين -رضي الله عنهم- والنصر على الأعداء، وهي التي جعلت صحابيًا جليلاً مثل أنس بن النضر -رضي الله عنه- الذي غاب عن غزوة بدر أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غِبْتُ عَنْهُ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟ قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ فَقَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلاَّ بِبَنَانِهِ. (رواه مسلم).
كما أن هناك موانع ينبغي أن يحذر منها أهل الحق، تحول دون تحقيق الثبات عليه، ومن أهمها:
الذنوب والإسراف:
فالمعاصي والذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، فالذين خالفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد -وهم الرماة- كان عصيانهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو من أهم أسباب ما حدث له ولأصحابه -رضي الله عنهم-.
ويوم حنين خرج رسول الله -تعالى- في اثنا عشر ألفًا والمشركون أربعة آلاف فأعجب بعض المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فحمل المشركون عليهم حملة واحدة فانهزموا ولم يبق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نحو مائة رجل ثبتوا معه، ونادى العباس بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نادى في الأنصار وبقية المسلمين: يا أصحاب سورة البقرة... فلما سمعوا هذه تجمعوا ووثبوا على أعداء الله وثبة رجل واحد حتى انتصروا وهزم الله المشركين، واستولى أهل الحق على نسائهم وأموالهم؛ يقول -عز وجل-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:25-26).
التنازع في أمور الدنيا:
وهو من أهم ما يوجب الفشل والخذلان، ويضعف العزائم، ويفرق القلوب ويشتتها، ويبدد القوة، ويقف عائقًا ومانعًا دون تحقيق وعد الله بالنصر المرتبط بطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46).
الركون إلى أعداء الله -تعالى-:
وهو أيضًا من أعظم الموانع التي تحول دون الثبات على الحق، ذلك أن أعداء الله يسعون دائمًا وبكل الطرق لاستمالة أهل الحق حتى يركنوا إليهم ويتركوا ما هم عليه من الدعوة إلى الحق، والصبر في سبيله، والثبات عليه، وكل ما يتمناه أهل الباطل هو تحقيق هذا الميل لهم من جانب العصابة المؤمنة فيفقدون بذلك تثبيت الله لهم؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء:74-75)، وقال أيضًا: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113).
والله وحده المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[size=21]الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما أحوج أهل الحق إلى الثبات عليه؛ ليتحقق لهم أملهم المنشود في بناء الشخصية المؤمنة التي يغير الله بها الإسلام ويُمكِّن لأهله في الأرض.
الثبات على الحق من نعم الله على المؤمن:
فأعداء الله -عز وجل- في كل زمان ومكان حريصون على فتنة أهل الحق بكل الطرق، والكيد لهم؛ حتى يجيئوا بما يوافق أهواءهم ويتركوا القول والعمل بما أنزل الله، لو فعل أهل الحق ذلك ووافقوهم على مرادهم لصاروا أحبَّ الناس إلى أعداء الله، ولكنَّ الله -عز وجل- يثبت أولياءه ويحول بينهم وبين الاستجابة لهذه الفتن بما جبلهم عليه -عز وجل- من حب الحق والسعي في سبيله، والتبصر بمراد أعدائهم ونواياهم الخبيثة.
وحين أنعم الله -عز وجل- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى صحابته بتثبيتهم في مواجهة أعدائهم يوم بدر، ثبَّت قلوبهم أولاً؛ ذلك أن تثبيت القلوب هو الطريق لتثبيت الأبدان؛ فأنزل الله المطر على أهل بدر حيث طهرهم به وربط به على قلوبهم.
الثابتون على الحق في الدنيا هم أهل الثبات عند الموت وفي القبر:
فالله -عز وجل- يثبت أهل الحق الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام، الذي هو التصديق اليقيني المستلزم لانبعاث الجوارح بالعمل الصالح، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا أمام ما يعرض لقلوبهم من أمراض الشبهات والشهوات، فالله -سبحانه- يهديهم إلى اليقين الذي يزيل ما قد يرد من الشبهات.
ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك ما حدث للإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن حيث هداه الله إلى اليقين وثبته في مواجهة أهل البدع والأهواء، فأعز الله بهذا الإمام الجليل الإسلام وأهله وقمع به أهل البدع إلى يوم الدين.
كما أن الله -عز وجل- يهدي أهل الحق بالإرادة المعنوية على تقديم ما يحبه الله -تعالى- على هوى النفس ومرادها، وذلك عند ورود أمراض الشهوات.
فبالإرادة الجازمة ثبت الله نبيه يوسف -عليه السلام- حيث راودته امرأة العزيز عن نفسه؛ فثبته الله -عز وجل- في هذا الموقف العصيب: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف:23).
هؤلاء وغيرهم من أهل الحق في كل زمان ومكان، الذين دعوا إليه وصبروا في سبيله هم أهل الثبات عند الموت وفي القبر؛ قال عز من قائل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم:27)، فيجازيهم ربهم عند الموت بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة، وفي القبر عند سؤال الملكين بتوفيقهم إلى الإجابة الصحيحة.
إلقاء الرعب في قلوب أعداء الله منحة منه -تعالى- لأهل الحق:
فالله -عز وجل- لا يكتفي بتثبيت المؤمنين على الحق فضلاً منه ونعمة، وإنما يمنحهم أيضًا منحة عظيمة بتوهين أعدائهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، وهذا الرعب هو من أعظم جنود الله الذي ينصر الله به أولياءه على أعدائهم.
وهناك عوامل لابد لأهل الحق أن يتمسكوا بها ويعضوا عليها بالنواجذ حتى يكونوا أهلاً لهذا الإنعام العظيم عليهم من مولاهم -عز وجل- بتثبيتهم على الحق.
لا يثبت إلا الصابرون ولا فائدة في غيرهم:
فهذا طالوت لما جهز جنوده لقتال الأعداء رأى منهم الضعف وصغر الهمم، فأراد أن يميز الصابرون منهم عن غيرهم؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ... ) (البقرة:249)، تمرون عليه وقت عطشكم ورغبتكم في الماء (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)، فهذا اختبار من طالوت أراد به أن يميز الصابر والصادق عن غيره، فالذي يشرب يدل ذلك على قلة صبره، والذي لا يشرب يدل ذلك على صبره وصدقه، وكانوا هم القلة: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ)، صبروا وصدقوا ولم يشربوا: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)، فإن كان الذي قال ذلك هم الأكثرية الذين لم يطيعوا طالوت أو كانوا هم الذين عبروا معه فإنه لما أصابهم بعض الضعف شجعهم على الثبات أهل الإيمان؛ أهل الحق حيث قالوا: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). وهي معية التأييد والنصر والتسديد؛ فثبتوا وصبروا حتى استحقوا من الله النصر على أعدائهم.
وإن من أهم الدروس المستفادة من هذه القضية -وهي كثيرة-:
أن النصر مع الصبر، وأنه بالصبر يتحقق الثبات على الحق، ويأتي على أثره النصر، ومن لا يصبر لا يثبت؛ فينبغي إبعاده حتى لا يتسبب في توهين وتخذيل الآخرين.
الدعاء والتوسل إلى الله وسؤاله التثبيت:
وما دام الثبات على الحق من عند الله فينبغي إذاً أن يُطلب منه وحده، ففي قصة طالوت السابق ذكرها حين تم تخليص الطائفة المؤمنة المصابرة لمواجهة جالوت وجنوده، وتحققت المواجهة بين العصابتين -أهل الحق وأهل الباطل- كان لابد للعصابة المؤمنة أن تتوسل إلى الله وتتضرع إليه، وتسأله الصبر والتثبيت والنصر، فكل مطلوب لأهل الحق إنما هو بيد الله وحده: (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
والدعاء من أعظم الأسلحة التي تعين أهل الحق في مواجهة أعداء الله؛ فعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ومن دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب وهو ينقل التراب: (اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا) (متفق عليه).
طاعة الله -عز وجل- من عوامل الثبات على الحق:
إن من تيسير الله -عز وجل- على العبد أنه لم يكلفه إلا بما يطيق، فعلى العبد إذاً أن يحمد ربه على ذلك، حيث أمره بما يطيق فعله، ونهاه عما يطيق تركه، فالعبد لو فعل ما طلبه الله منه في كل وقت بحسبه وبذل همته في سبيل تحقيق ذلك؛ فإن الله -عز وجل- سيمنحه الأشياء التالية وما أعظمها:
الأول: أن يجعله من الأخيار المتصفين بأفعال الخير، وهذا يستلزم انتفاء صفة الأشرار عنهم.
الثاني: أن يزيد في تثبيته على الحق بسبب طاعته لله -عز وجل- واستمراره على ذلك.
الثالث: أن يمنحه الأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
الرابع: أن يهديه صراطه المستقيم وهي أعظم نعمة، فلا نعمة أتم ولا أكمل ولا أنفع من أن يهدي الله عبده صراطه المستقيم.
ولقد كان لطاعة صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- لما رجعوا من أحد إلى المدينة، فندبهم -صلى الله عليه وسلم- إلى الخروج إلى حمراء الأسد مع ما بهم من الجراح والآلام، فكان لهذه الطاعة الفورية أثر عظيم في أن نصرهم الله -عز وجل- بالرعب الذي ألقاه في قلوب أعدائهم؛ فرجعوا إلى مكة وعاد أهل الحق سالمين إلى المدينة فائزين بأجر غزاة مكة دون قتال.
فالإكثار من ذكر الله -تعالى- من أعظم ما يعين على الثبات على الحق ضد أعداء الله، والنصر عليهم، وذلك امتثالاً لأمر فاطر السموات والأرض؛ قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45).
الاقتداء بالصالحين طريق إلى الثبات على الحق:
وأعظم الأمثلة على ذلك وأعلى من يُقتدى به في ذلك، بل هو المثل العملي الأروع في الثبات على الحق، هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ. وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلاَّ رَمَضَانَ" (رواه مسلم).
وكان -صلى الله عليه وسلم- أثبت الناس في مواجهة أعداء الله، وما ولاهم ظهره أبدًا، وكان يثبت أصحابه في المواقف العصيبة، ومنها ما حدث يوم حنين، كما يقول البراء -رضي الله عنه- حين سأله رجل: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلاَحٌ أَوْ كَثِيرُ سِلاَحٍ فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً لاَ يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ فَنَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَقَالَ: (أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ). ثُمَّ صَفَّهُمْ. (متفق عليه).
وهو الذي ثبته ربه من فوق سبع سماوات بقوله -عز وجل-: (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120)، وقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف:35)، فإن النفوس جبلت على الأنس الاقتداء، ويتأيد الحق بذكر شواهده وكثرة من قام به.
تدبر القرآن والعمل بما جاء به من أعظم ما يعين على الثبات على الحق:
فالواجب على أهل الحق تدبر القرآن واستخراج الدواء منه؛ لعلاج الأمراض والفتن حسبما تقع، وهذا فيه اقتداء بالرب -عز وجل- في تدبير حال رسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث أنزل عليه القرآن مفصلاً وقتًا بعد وقت، وتواردت عليه آياته شيئًا فشيئًا، فكان ذلك سببًا في تثبيت قلوب صحابته -صلى الله عليه وسلم- حتى صارت أثبت من الجبال، واكتملت بآيات القرآن هدايتهم الهداية التامة التي استحقوا بها سكنى دار النعيم؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:102).
الثقة فيما عند الله -عز وجل-:
فإن المؤمن دائمًا يثق بربه، ويثق فيما عنده من موعود لأهل الحق، وهذه الثقة كانت من أهم عوامل ثبات الصادقين -رضي الله عنهم- والنصر على الأعداء، وهي التي جعلت صحابيًا جليلاً مثل أنس بن النضر -رضي الله عنه- الذي غاب عن غزوة بدر أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غِبْتُ عَنْهُ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟ قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ فَقَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلاَّ بِبَنَانِهِ. (رواه مسلم).
كما أن هناك موانع ينبغي أن يحذر منها أهل الحق، تحول دون تحقيق الثبات عليه، ومن أهمها:
الذنوب والإسراف:
فالمعاصي والذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، فالذين خالفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد -وهم الرماة- كان عصيانهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو من أهم أسباب ما حدث له ولأصحابه -رضي الله عنهم-.
ويوم حنين خرج رسول الله -تعالى- في اثنا عشر ألفًا والمشركون أربعة آلاف فأعجب بعض المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فحمل المشركون عليهم حملة واحدة فانهزموا ولم يبق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نحو مائة رجل ثبتوا معه، ونادى العباس بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نادى في الأنصار وبقية المسلمين: يا أصحاب سورة البقرة... فلما سمعوا هذه تجمعوا ووثبوا على أعداء الله وثبة رجل واحد حتى انتصروا وهزم الله المشركين، واستولى أهل الحق على نسائهم وأموالهم؛ يقول -عز وجل-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:25-26).
التنازع في أمور الدنيا:
وهو من أهم ما يوجب الفشل والخذلان، ويضعف العزائم، ويفرق القلوب ويشتتها، ويبدد القوة، ويقف عائقًا ومانعًا دون تحقيق وعد الله بالنصر المرتبط بطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46).
الركون إلى أعداء الله -تعالى-:
وهو أيضًا من أعظم الموانع التي تحول دون الثبات على الحق، ذلك أن أعداء الله يسعون دائمًا وبكل الطرق لاستمالة أهل الحق حتى يركنوا إليهم ويتركوا ما هم عليه من الدعوة إلى الحق، والصبر في سبيله، والثبات عليه، وكل ما يتمناه أهل الباطل هو تحقيق هذا الميل لهم من جانب العصابة المؤمنة فيفقدون بذلك تثبيت الله لهم؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء:74-75)، وقال أيضًا: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113).
والله وحده المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
Admin مدير ومؤسس منتديات الهيام (HERO. )
النشاط : 1137348الموقع : https://www.facebook.com/groups/MansourachatGroup/
موضوع: رد: الثبات على الحق سبيل نصرة أهل الإيمان الأحد 2 مايو - 17:41:42