موضوع: خطبة طريق الهداية للشيخ محمد حسان الأحد 30 أكتوبر - 16:27:39
طريق الهداية إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } آل عمران102 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70 } يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب71،70 ]. أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي نبينا محمد r ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار(1) . ثم أما بعد .. فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال والله شوقنا إليها ، وزكى الله هذه الأنفس الكريمة التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله ، وشرح الله هذه الصدور العامرة، التي جمعنا بها الإيمان بالله . طبتم وطاب ممشاكم – أيها الإخوة والأخوات - وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلا ، وأسأل الله – جل وعلا – الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته ، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفي r في جنته ودار مقامته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..
أحبتي في الله .. طريق الهداية : هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم ، في هذا اليوم الكريم المبارك ، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا ، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الأهم في العناصر المحددة التالية : أولاً : أقسام الهداية . ثانيا : أسباب الهداية . ثالثاً : علامات الهداية . وأخيرا : عقبات في طريق الهداية . فأعرني قلبك ، وسمعك أيها الحبيب اللبيب ، والله أسأل أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أولا : أقسام الهداية : أيها الأحبة : إن أعظم وأشرف وأجل نعمة يمتن الله – جل وعلا -= بها على عباده نعمة الهداية نعمة الهداية للإيمان والتوحيد ، بل لقد افترض الله – جل وعلا – على عباده أن يتضرعوا إليه بطلب الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة سواء كانت الصلاة فريضة أم نافلة ، فما من ركعة وإلا تتضرع فيها إلى الله أن يهديك إلى الصراط المستقيم بقولك :{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }[الفاتحة/6]. فما هي الهداية وما أقسام الهداية ؟ الهداية في اللغة : هي الدَلالة أو الدِلالة بالكسر والفتح للدال واللغتان صحيحتان، الهداية هي الدلالة والتعريف والإرشاد والبيان وهي تنقسم إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : الهداية العامة : وهي مأخوذة من قول ربي حين سأل فرعون موسى وهارون عن ربهما قال فرعون : {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى } [طه/49] فأجابه موسى بقوله : {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه/50] هذه هي الهداية العامة {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.
أي : ربنا الذي خلق كل شيء على صورته ، وشكله اللائق به ، الذي يؤهله ويعينه على أداء المنفعة والمصلحة والمهمة التي خلق من أجلها .
فالعين مثلا خلقها الله بهذه الصورة البديعة والشكل الجميل ، وهيأها للإبصار ، فخلقها في علبة عظيمة قوية حتى لا تتلف ، وأحاطها بالرموش لتدفع الرموش عن العين الضوء ، وأحاطها بأهداب لتمنع الأهداب العرق من أن يتساقط إلى داخل العين ، ثم أمدها بماء مالح لتحفظ العين من الأتربة والميكروبات .
والأذُن مثلا خلقها الله – عز وجل – بهذا الشكل البديع الجميل في هذا التجويف العظمي الداخلي في الرأس ، ثم أحاطها من الخارج بهذا الصوان الخارجي الجميل ، وهيأها للسمع حتى في النوم ، وأمدها بماء مر حتى لا تتسرب الحشرات إليها وأنت نائم .
والفم مثلا ، خلقه الله بهذا الشكل البديع الذي يؤهله للطعام والكلام فالشفتان تنفرجان للطعام ، دون أمر منك لهما بالانفراج والقواطع تقطع والأنياب تمزق، والضروس تطحن، واللعاب يسهل ، واللسان يتحرك هنا وهنالك لتيسير المضغ وكذلك للكلام.
كل هذا خلق من ؟ كل هذا صنع من ؟ كل هذا هدى من ؟ لله في الآفاق آيات ولعل ما في النفس من آياته الكون مشحونٌ بأسرار قل للطبيب تخطفته يد الردى قل للمريض نجا وعوفي بعد ما قل للصحيح مات لا من علة بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بل سائل البصير كان يحذر حُفرة وسل الجنين يعيش معزولا بلا وإذ ترى الثعبان ينفث سمه فسله واسأله كيف تعيش يا ثعبان واسأل بطون النحل كيف تقاطرت بل سائل اللبن المصفى من ببين فرث وإذا رأيت النخل مشقوق النوى وإذا رأيت البدر يسرى ناشرا وإذا رأيت النار شب لهيبها وإذ ترى الجبل الأشم مناطحا لله في الآفاق آيات ولعل ما في النفس من آياته
لعل أقلها هو ما إليه هداك عجب عجاب لو ترى عيناك إذا حاولت تفسيرا لها أعياك يا مداوى الأمراض من أرداك عجزت فنُونُ الطب من عافاك من يا صحيحُ بالمنايا دهاك بلا اصطدام من يا أعمى يقود خطاك فهوى بها من ذا الذي أهواك راعٍ ومرعى من ذا الذي يرعاك من يا ثعبان بالسموم حشاك أو تحيا وهذا السم يملأ فاك شهدا وقل للشهد من حلاك ودم من ذا الذي صفاك فاسأله من يا نخل شق نواك أنواره فاسأله من أسراك فاسأل لهيب النار من أوراك قمم السحاب فسله من أرساك لعل أقلها هو ما إليه هداك عجب عجاب لو ترى عيناك
أإله مع الله ؟!! قال ابن القيم : من تأمل بعض هداياته في خلقه لعلم أنه الإله الواحد الحق الذي يستحق أن يوحد ويستحق أن يعبد بلا منازع أو شريك { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }[طه/50] أي : ثم هداه إلى ما يصلحه ، ويؤهله للقيام بالوظيفة التي خلق من أجلها ووجد من أجلها ، هذه هي الهداية العامة لو تدبرت كل شيء في الكون لوصلت إليها . بل لقد أضاف العلامة الألوسي في (( روح المعاني )) إضافة جديدة جميلة للآية فقال : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }[طه/50] قال ربنا الذي خلق كل شيء على صورته وشكله اللائق به وجعل هذا الشيء دليلاً على وجوده .
ففي كل شيء له آية سل الواحة الخضراء والماء جاريا ولو جُن هذا الليل وامتد سرمدا
تدل على أنه الواحد سل الليل والإصباح والطير شاديا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
لا أريد أن أطيل النفس مع كل عنصر وإلا فورب الكعبة إن كل عنصر من عناصر اللقاء يحتاج إلى لقاء .
الهداية العامة : ثانيا : من أقسام الهداية : هداية الدلالة والبيان والتعريف والإرشاد : ومعناها : أن الله – جل وعلا – خلق الإنسان وأرشده ودله وهداه وعرفه طريق الخير والشر . تدبر كل لفظة خلق الله الإنسان ودله وأرشده وبين له وعرفه طريقي الخير والشر.
قال تعالى : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }[البلد/10] أي : الطريقين : طريق الخير وطريق الشر . قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }[الإنسان/3] قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [ الشمس/7-10]
ومع ذلك من رحمة الله بنا أن الله لم يعذب خلقه بعد هذه الهداية أي : بعد هداية الدلالة، بل أرسل الله إلى الخلق الرسل والأنبياء ، وأنزل الله عليهم الكتب ، ليأخذ الرسل والأنبياء بيد البشر من ظلام الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية ، ليدل الرسل والأنبياء البشر على الحق تبارك وتعالى وقال – جل وتعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء/15] . وقال سبحانه: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[ النساء/165] . وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [هود/61] ، قال تعالى : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [هود/50] .
قال تعالى : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [ هود/84] .
وبالجملة : قال تعالى : {َإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر/24] .
فالله – جل وعلا – لا يعذب عباده إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم ببعثه الأنبياء والمرسلين، ومع ذلك من رحمة الله بخلقه أن أبقى في كل أمة بعد رسولها ورثة لهذا النبي ، وهذا الرسول ، إنهم ورثة الأنبياء ، إنهم الدعاة المصلحون ، إنهم المخلصون المنصفون ، الآمرون بالمعروف بمعروف ، والناهون عن المنكر بغير منكر ، إنهم الشموع التي تحترق ، لتضيء للأمة طريق ربها ونبيها ، إنهم العلماء الربانيون ، والدعاة الصادقون ، فهؤلاء أيضا بعد الرسل يدلون الخلق على الحق ، ويأخذون بأيدي البشر إلى طريق رب البشر ، والسير على طريق سيد البشر r .
قال رسول الله r كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود : (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب )) .. اللهم اجعلنا من حواري رسول الله r ((إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ))(1) .
إذا هداية الدلالة يؤديها العلماء بعد الرسل والأنبياء ، لأنهم ورثة الرسل والأنبياء قال تعالى لنبينا: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف/108].
قال ابن القيم : ولا يكون الرجل من أتباع النبي r حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي r على بصيرة . هذه هي هداية الدلالة .
ثالثا : هداية التوفيق : وهذه لا يملكها مَلَكّ مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولو كان المصطفى r، لا يملك هداية التوفيق إلا الله ، نعم ! لا يملك هداية التوفيق إلا الله ، ما عليك فقط إلا أن تبحث عن هداية الدلالة ، عن الأسباب ، وأن تجاهد ، وأن تسأل ربك الهدى ليرزقك هداية التوفيق .
ما هي هداية التوفيق ؟
أن يوفقك الله – جل وعلا – لتوحيده والإيمان به والسير على صراطه المستقيم ، ليست بيدك ولا بيدي ، ليتعلم العلماء والدعاة الأدب مع الله فوظيفتي ، ووظيفتك الإنذار والبلاغ ، أما القلوب ، فإنها بيد علام الغيوب . ما عليك إلا أن تبذر بذراً صحيحاً على القرآن والسنة ، وأن تدع النتائج بعد ذلك إلى الله ، فليس من شأننا أن نقاضي العباد وإنما هذا شأن الله – سبحانه وتعالى – الذي يحاسب الخلق على كل صغيرة وكبيرة . ولو كانت هداية التوفيق بيد المصطفى r لهدى النبي r عمه أبا طالب الذي تفطر قلب النبي r من أجل هدايته ، لأن أبا طالب كان يشكل حائط صد منيع ، طالما تحطمت عليه سيوف ورماح أهل الشرك في مكة أحاط النبي r بكل ما يملك ، ومع ذلك، فلم يستطع النبي هدايته أبدا ، هو بذل له هداية الدلالة ، وهي المرادة في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[الشورى/52] .
أما هداية التوفيق قال الله فيها لنبيه :{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[ القصص/56] .
روى البخاري وغيره أن النبي r دخل على أبي طالب وهو على فراش الموت وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فجلس النبي r إلى جوار عمه وقال : (( يا عم قل : لا إله إلا الله ، يا عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة )) فقال أبو جهل لأبي طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! يعني : أتترك دين آبائك وأجدادك ، فقال أبو طالب – ولا حول ولا قوة إلا بالله – بأنه على دين عبد المطلب ، فخرج الرحمة المهداة والنعمة المسداة صاحب القلب الكبير خرج من عند عمه وهو يقول: (( لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك )) .. فنزل عليه قول الله عز وجل : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة/113] إنا لله وإنا إليه راجعون .
لو كانت هداية التوفيق بيد المصطفي r لاستطاع أن يهدي عمه أبا طالب هذا يبين لنا أيها الأحبة أننا في غاية الفقر لله - جل وعلا – وفي أمس الحاجة إلى توفيق الله – جل وعلا – فوالله ما أتيت اليوم برغبتك وإنما بتوفيق الله لك ، والله ما جلست اليوم في هذا المكان من ساعات مبكرة إلا بعد توفيق الله لك .
والله لولا أنت ما اهتدينا فأنزلن سكينة علينا
ولا صمنا ولا صلينا وثبت الأقدام إن لاقينا
قال الله – عز وجل : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[الأعراف/42] تدبر : {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} اللهم انزع ما في صدورنا من غل {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ } [ الأعراف/43] اعتراف المؤمن بالفضل لله ، فالمؤمن لا يرى لنفسه أبداً فضلا ، لا يرى لنفسه في قول ولا في عمل فضلا ، فالفضل ابتداء وانتهاء لله – جل جلاله – فإن أطعت فمن وفقك للطاعة وإن ذكرت فمن أعانك على الذكر ؟ وإن شكرت فمن وفقك للشكر ؟ وإن أصبحت طالب علم فمن علمك ؟ وإن فهمت مراد الله فمن فهمك ؟ وإن وفقك الله لبر الوالدين فمن وفقك ؟ وإن حبب الله إليك البذل فالفضل ابتداء وانتهاء لله – جل وعلا – قال سبحانه وتعالى : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات/17] .
رابعاً : الهداية في الآخرة : الهداية العامة وهداية الدلالة والبيان ، وهداية التوفيق ، والهداية في الآخرة ، أقسام الهداية وآخر مراتب الهداية .
تدبر معي ! أيها الحبيب اللبيب فمن هدي في الدنيا إلى الصراط المستقيم هدي في الآخرة للسير على قَدْر هداه في الدنيا على الصراط المضروب على متن جهنم .
على قدر سيرك هنا يكون سيرك هنالك ، وعلى قدر وجود الشهوات والشبهات، التي تعيق سيرك على الصراط المستقيم في الدنيا ، ستكون قوة الخطاطيف والكلاليب، التي تعيق سيرك إلى جنات النعيم .
تدبر هذا الكلام النفيس ! كلما قويت الشهوات والشبهات التي تعوق سيرك على الصراط المستقيم ، قويت هنالك على الصراط الخطاطيف والكلاليب التي تعيق سيرك على الصراط، لتصل إلى جنات النعيم ، فإذا كانت الشهوات والشبهات ضعيفة ، كانت الخطاطيف والكلاليب هنالك ضعيفة وإذا كانت هنا قوية كانت هنالك قوية . فمن الناس من يمشي على هذا الصراط في الدنيا بثبات ، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك، لا يلتفت إلى الوراء لنداء الشيطان ، والنفس الأمَارة بالسوء والهوى وصحبة السوء، إنما هو عرف طريقه ، عرف ربه ، وسار على درب الحبيب r لا يلتفت إلى الوراء، بل إذا وقعت قدمه في بؤرة معصية ، وتأثرت ثيابه بشوك المعاصي ، سرعان ما يجذب ثيابه ليطهرها بدموع التوبة ، ليواصل سيره ومسراه إلى ربه وسيده ومولاه خلف حبيبه سيدنا رسول الله r عرف الدرب .
هذا يمر على الصراط المضروب على متن جهنم يوم القيامة كالبرق بمجرد أن يعبر، أو أن يضع قدمه اليمنى على الصراط، يرى نفسه كالبرق في جنات النعيم، ومنهم من يمر عليه كالطرف كالريح، كأجاويد الخيل والركاب، ومنهم من يمر عليه يجري ، ومنهم من يمر على الصراط يمشي، ومنهم من يمر على الصراط يحبو على يديه ورجليه، ومنهم من يمر فتسفعه النار مرة، وتخدشه النار مرة وينجيه الله، ومنهم من تخطفه الكلاليب إلى نار جهنم والحديث رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري([1])وغيره ، فعلى قدر سيرك هنا على الصراط يكون
سيرك هنالك على الصراط . أهل الإيمان يعبرون الصراط إلى الجنة تدبر معي قول ربي :{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ{23} وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } أي في الدنيا ، وفي الآخرة { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ }[ الحج /24،23] . اللهم اجعلنا منهم وهدوا إلى الطيب من الأقوال في هذه الحياة ، لا يتكلم إلا خيرا، لا يأمر إلا بمعروف ، لا ينهي إلا عن منكر ، لسانه رطب بذكر الله ، لا يخرج العيب ، لا يعرف الغيبة ، لا يعرف النميمة ، لا يعرف الكذب ، لا يعرف شهادة الزور ، هذا يهديه ربه يوم القيامة إلى صراط الحميد ، وهدوا إلى صراط الحميد {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ{10} أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ{11} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ{12} ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ{13} وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [ الواقعة / 10-14] .
قال ابن القيم : السابقون في الآخرة إلى الرضوان والجنات ، هم السابقون في الدنيا إلى الخيرات والطاعات ، وعلى قدر السبق هنا يكون السبق هناك . قال الحبيب r - وتدبروا هذا الحديث الرقراق الجميل الذي رواه البخاري وغيره من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : (( إذا خلص المؤمنون من النار))([2]) .
أي إذا عبروا الصراط ونجاهم العزيز الغفار من النار وأرجو أن تتصوروا معي هذا المشهد الذي يخلع القلب قال تعالى:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً{71} ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}[ مريم 72،71] اللهم اجعلنا من المتقين.
تدبر معي المشهد قال : (( إذا خلص المؤمنون من النار ، آخر رجل يدخل الجنة يعبر على الصراط تسفعه النار مرة ويكبو مرة ، فإذا نجاه الله التفت إلى النار خلفه )) نجا عبر (( يلتفت للنار من خلفه تحت الصراط ويقول : تبارك الذي نجاني منك ، الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدا من الأولين والآخرين من خلقه )) . وهو آخر رجل يدخل الجنة ، فالأمر ليس يسيرا يقول النبي r (( إذا خلص المؤمنون من النار )) انطلقوا إلى الجنة ؟ لا ، انتظر لا ، ماذا بعد ؟ وهل هناك أمر بعد الصراط ؟ نعم بعد الحساب ؟ نعم بعد الميزان ؟ نعم ماذا بعد ؟ ((يحبس المؤمنون بعد عبورهم للصراط على قنطرة أخرى بين الجنة والنار)) لماذا؟ ((للقصاص)). للقصاص ، هل تتصور أن ظلمك لأخيك سيضيع سدى ؟ لا ، هل تتصور أنك يوم أن اغتبت فلانا ، أو مشيت بالنميمة ، وأفسدت القلوب بين الناس أو ظلمت فلانا ، أو ضربت فلانا ، أو شتمت فلانا أو قذفت فلانة ، هل تظن أن هذا يضيع سدى؟ لا ، مع أنك من المؤمنين وعبرت الصراط ، تُحبس مرة أخرى للقصاص . اسمع ماذا قال سيد الناس : (( إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار يتاقصون مظالم كانت بينهم )) .. آه من الظلم! آه من الظلم ! ولو بكلمة ((يتقاصون مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا ونقوا انطلقوا إلى الجنة )) ، اسمع ماذا يقول رسول الله r قال (( فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى )) أي : أعرف وأدل (( لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا )) { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[ الحج /24،23] ما تدبر كثيرا من هذه الكلمات النبوية .
أقول : ينطلق الآن بعد صلاة الجمعة بعد هذا الجمع الكريم بين يدي كل واحد منا سيذهب إلى بيته ومنزله ، دون أن يسأل أحداً ، ليدله على هذا المنزل كذلك في الآخرة بعد هذا القصاص والتطهير والتهذيب ، ينطلق كل مؤمن إلى منزله على قدر مكانته وعمله في الجنة يقول النبي r : ((هو أعرف بمنزله في الجنة من معرفته بمنزله كان في الدنيا )) { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } .
قال – جل وعلا – في سورة محمد : {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }[محمد/6] فكل يعرف منزله وكل ينطلق إلى مكانته ، نسأل الله أن يرزقنا الفردوس الأعلى ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أيها الأحبة الكرام : هذه هي مراتب الهداية ، وأقسام الهداية ، هداية عامة ، وهداية الدلالة والإرشاد والتعريف والبيان وهداية التوفيق ، والهداية في الآخرة ، يهدي الله أهل الجنة إلى الجنة ، ويهدي الله أهل النار إلى النار ، فكما أن الجنة درجات ، فأن النار دركات ، اللهم نجنا من النار كل له منزلة ، كل له مكانة في النار ، فالجنة درجات ، والنار دركات قال – جل وعلا – {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ{22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[ الصافات/ 23،22] .
أيها الأحبة : هذا بإيجاز شديد جداً في أقسام الهداية .
فما هي أسباب الهداية على وجه السرعة ؟ هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء.
أعظم أسباب الهداية : أن تعرف الله ، فمن عرف الله بأسماء جلاله وصفات كماله أحبه ، من عرف الله أحبه ، ومن عرف الله خافه ، والحب والخوف هما العبادة ،فالعبادة هي كمال الحب لله ، مع كمال الذل لله ، ومن عبد الله – عز وجل – وحده لا شريك له فقد هدي إلى الصراط المستقيم ، من عبد الله – عز وجل وحده لا شريك له فقد هدي إلى الصراط المستقيم .
ثانيا : بإيجاز الإيمان بالله – تبارك وتعالى : تدبر معي ! هذه الآية الجميلة قال سبحانه : { َمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن/11] الله أنت قرأتها مرارا ولكن أرجو أن تتدبرها عش معنى الآية : { َمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } ولو هدى القلب لسجد بين يدي الرب سجدة لا يقوم منها حتى يستمتع بالنظر إلى وجه ربه في الجنة ، والله لو ذاق القلب حلاوة السجود ما قام من سجدته ، والله لو ذاق القلب حلاوة الإيمان ما فارق هذا الباب أبدا { َمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } وهدى القلب سبيل السعادة في الدنيا والآخرة{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ{88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء/89،88] اللهم اهد قلوبنا.
ثالثا : من أسباب الهداية الاعتصام بالله : ذكرت أنه لا حول ولا قوة لنا إلا به – جل جلاله – فما عليك إلا أن تبحث عن أسباب هداية الدلالة وأن تسأل ربك أن يلهمك هداية التوفيق ، وأن يحبب الإيمان إلى قلبك وأن يزينه فيه ، وأن يثبتك على الصراط المستقيم: {َمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[آل عمران/101] ما هو الصراط المستقيم ؟ وأنت تكرر اللفظة كثيرا . قال عليّ رضي الله عنه : الصراط المستقيم هو القرآن . قال ابن عباس رضي الله عنه : الصراط المستقيم هو الإسلام . قال ابن الحنفية رضي الله عنه : الصراط المستقيم هو دين الله ، الذي لا يقبل غيره أبدا .. دين الله هو الصراط المستقيم . وفي الحديث الصحيح (1) الذي رواه أحمد في مسنده وغيره من حديث النواس بن سمعا – رضي الله عنه – أن النبي r قال: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما)). تدبر هذا المثل النبوي البليغ: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران وفيهما أبواب مفتحة)). أي: في السورين أبواب مفتح’ ((وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى رأس الصراط داع يقول : أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ويقول )) إذا أراد الإنسان أن يدخل باباً من هذه الأبواب المفتحة التي أرخيت عليها الستور يقول له الداعي من فوق الصراط : (( ويحك ويحك لا تفتحه )) . أي لا تفتح هذا الباب (( فإنك إن تفتحه تلجه )) .. إن فتحت دخلت ، والمعنى قال الحبيب r : (( الصراط هو الإسلام )) .. هذا تفسير النبي r إذاً للصراط ((الصراط هو الإسلام والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم)) ((واعظ الله في قلب كل مسلم)) .
فأنت إذا هممت بمعصية ، ترى واعظا في قلبك ، يقول لك : لا ، لا ، تفعل هذا، ابتعد، هذا حرام ، وإذا فعلت طاعة تسمع الواعظ في قلبك يزين لك الطاعة يحببها إليك ويحثك على المزيد ، وعلى الإكثار ، ولذا قال المختار r : (( البر حسن الخلق ، والإثم ماحاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ))([3])
ترمومتر دقيق فب قلب كل مسلم، واعظ الله في قلب كل مسلم، نسأل الله أن يحي قلوبنا وأيضا من أعظم أسباب الهداية بعد الإعتصام بالله والتمسك بدينه وصدق اللجأ إليه – تبارك وتعالى – المحافظة على الصلوات . قال ابن مسعود – والحديث رواه مسلم : من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله قد شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كالمتخلف الذي يصلي في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق ، معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.([4])
خامساً بإيجاز : الصحبة الصالحة : الصحبة الصالحة من أعظم أسباب الهداية أن تصحب رجلا يذكرك بالله ، وأن تبتعد عن رجل يحول بينك وبين معرفة الله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً{27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً{28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} [ الفرقان / 27-29] لذا قال الحبيب r: ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي )) ([5]). وقال r: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء ، كحامل المسك ونافخ الكير))([6]).
عقارب الساعة تطاردنا وأنا لا أريد أن أشق على إخواني خارج بيت الله – جل وعلا – ومازالت عناصر ونقاط الموضوع بين يدي كثيرة ، لكن أكتفي بهذا القدر ، والله أسأل أن ينفعنا بما سمعنا وبما قلنا وأن يرزقنا الهدى والعفاف والغنى ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية : الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد : فيا أيها الأحبة الكرام : من أعظم أسباب الهداية أيضا المجاهدة : قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت/69] والمجاهدة للنفس أربع مراتب : المرتبة الأولى : مجاهدة النفس على تعلم الحق ، والهدى . المرتبة الثانية : مجاهدة النفس على العمل بما تعلمت . المرتبة الثالثة : مجاهدة النفس على الدعوة إلى الحق والهدى . المرتبة الرابعة : مجاهدة النفس على الصبر على الأذى والبلاء . فمن تعلم وعمل وعَلْم لابد أن يتعرض للأذى من المنافقين والظالمين . قال تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} [ الفرقان /31] . وقال تعالى : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ{2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [ العنكبوت /3،2] . ثالثا : بإيجاز شديد لأكمل الموضوع ولو في عجالة علامات الهداية :
وأول علامة من علامات الهداية : تحقيق الإيمان : فمن آمن بالله ووحد الله فقد هداه الله – سبحانه – وهذه أعظم علامات هداية الله له . بإيجاز شديد من أعظم علامات الهداية أن تحافظ على الصلوات .
ثالثا: من أعظم علامات الهداية السمع والطاعة لله ورسوله: قال تعالى: { فَبَشِّرْ عِبَادِ{17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ الزمر / 18،17] . وقال في شأن طاعة رسوله r :{إِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [ النور/54] فطاعة الله وطاعة رسول الله من أعظم علامات الهداية إن كنت ممن أطاع الله وأطاع رسوله r .
رابعا : من علامات الهداية الدعوة إلى الله – عز وجل : على قدر استطاعتك بأي وسيلة من الوسائل ، والأمر بالمعروف بمعروف ، والنهي عن المنكر بغير منكر . كذلك من علامات الهداية : الصحبة الطيبة والبعد عن صحبة السوء من علامات الهداية المحافظة على الأمر والنهي . من علامات الهداية : أن يكون سمتك وهديك ودلك موافقا لسمت وهدي ودل رسول الله r مع نية صادقة وعمل صالح ، وإلا فإن المظهر وحده لا يكفي مع سوء وفساد الطوية وبعد عن العمل الصالح لا يكفي هذا المظهر على الإطلاق . لذا روى الإمام أحمد في مسنده وغيره بسند صحيح ، بشواهده أن النبي r قال: ((خير عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله))(1). هناك مسلم إذا مشي في طريق ورآه الناس ذكروا الله ، تذكروا الله بسمته بهيبته ، ولاحظ أن الهيبة لست كبرا ، فقد يتصور بعض طلابنا ، أنه من أجل أن يُحَصْل الهيبة عند الناس يتصور أنه لابد من أن يتقعر ، ولابد من أن يعبث بجبينه ، ولابد من أن يتكلم بصوت أجش ، لا ، لا اسمع لأبن الجوزي – رحمه الله تعالى – إذ يقول : هيبة الناس لك لا تكون إلا على قدر هيبتك أنت من الله ، فمن الناس من يُرى فيذكر الله . من علامات الهداية : حب الناس لك وثناء الناس عليك :
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي r قال: ((إذا أحب الله عبدا نادى جبريل يا جبريل إني أحب فلانا)) .. يا الله !! تصور أن يذكر اسمك ملك الملوك الله، يذكر اسمك لجبريل ، وجبريل يذكر اسمك في الملأ الأعلى ((يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم ينادي جبريل في أهل الأرض: يا أهل الأرض إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل الأرض أو فيوضع له القبول في الأرض))([7])
اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنه قال : يا رسول الله إن الرجل ليعمل العمل من الخير فيلقى الله له الثناء الحسن – أي : على ألسنة المسلمين – فقال النبي r : (( تلك عاجل بشرى المؤمن))((تلك عاجل بشرى المؤمن)) ([8]).
فمن علامات هداية الله لك أن يحبك الناس لكن ليس كل الناس فلن يحب المؤمن إلا المؤمنون ، أما المنافق فهو يبغض المؤمن من كل قلبه ، لذا اعلم أخي :
أنه لا يبغض مؤمنا إلا منافق ، ولا يحب مؤمنا إلا مؤمن ، فالأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف . قال الخطابي : أرواح المؤمنين تحن إلى المؤمنين ، وأرواح المنافقين تحن إلى المنافقين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم/96] أي : محبة في قلوب عباده المؤمنين .
بقى أن أتحدث عن عقبات في طريق الهداية لكني أخشى أن أطيق عليكم .
وأخطر هذه العقبات الشيطان: قال تعالى: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور/21]، فالشيطان له خطوات وهو لنا عدو: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّا} [فاطر/6] ، وقال الله فيه: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[الحج/4].
[الدعاء ]
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والجمعة (867/43) ، وأحمد في المسند (3/310) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه . (1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ، وأن الإيمان يزيد وينقص (50/80) ، وأحمد في المسند (1/458) . (1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب معرفة طريق الرؤية (183/302) . (2) أخرجه البخاري في كتاب المظالم ، باب قصاص المظالم (2440) ، وأحمد في المسند (3/94) . (1) [ صحيح] : أخرجه أحمد في المسند (4/182) ، والحاكم في المستدرك في كتاب الإيمان (1/73) ، وقال : (( هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه )) ووافقه الذهبي . (1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب ، باب تفسير البر والإثم (2553/15،14) ، والترمذي في كتاب الزهد ، باب ما جاء في البر والإثم (2389) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وأحمد في المسند (4/182) . (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (654/257) ، والنسائي في كتاب الإمامة ، باب المحافظة على الصلوات حيث ينادى بها (848) (3) [حسن] : أخرجه أبو داود في كتاب الأدب ، باب من يؤمر أن يجالس (4832) ، والترمذي في كتاب الزهد ، باب ما جاء في صحبة المؤمن (2395) ، والدارمي في كتاب الأطعمة ، باب من كره أن يطعم (2057) ، وأحمد في المسند (3/38) كلهم من حديث أبي سعيد – رضي الله عنه ., (1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع ، باب في العطار وبيع المسك (2101) ، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب ، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (2628/146) وأحمد في المسند (4/408،405) من حديث أبي موسي الأشعري (1) – أخرجه أحمد في مسنده (4/227) بلفظ ((خيار)) بدل ((خير)) وقال الهيثمي في المجمع (8/93) : رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وقد وثقه غير واحد وبقية رجاله رجال الصحيح . (1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب المقه من الله تعالى (6040) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده (2637157) ، وأحمد في المسند (2/446،440) . (2) - أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب ، باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره (2642/166)، وابن ماجه في كتاب الزهد ، باب الثناء الحسن (4225) ، وأحمد في المسند (5/157،156) .